التعليم في الصغر كالنقش على الحجر
وتلك هي حقيقة قد أُثبت صحّتها بالدليل العلمي القاطع على السلوك الإنعكاسي التلقائي للإنسان. فعندما يولد الطفل يقوم بأداء حركات معنيّة بغرائز بقائه، على سبيل المثال، يرضع الطفل الوليد تلقائيا ليغذي جسده الصغير دون أن تعلّمه والدته الرضاعة، وكذلك ينام الطفل الوليد ساعات طويلة لتفرز غدّته النخاميّة هرمون النمو لينمو و يكبر.
وتلك هي حقيقة قد أُثبت صحّتها بالدليل
العلمي القاطع على السلوك الإنعكاسي التلقائي للإنسان. فعندما يولد الطفل يقوم بأداء
حركات معنيّة بغرائز بقائه، على سبيل المثال، يرضع الطفل الوليد تلقائيا ليغذي جسده الصغير دون أن تعلّمه
والدته الرضاعة، وكذلك ينام الطفل الوليد ساعات طويلة لتفرز غدّته النخاميّة هرمون النمو لينمو و
يكبر. ورغم عيش الطفل بغرائز بقائه، إلاّ أنّ عقله يكون منذ لحظة ولادته كالوعاء
المفتوح والمنفتح لأخذ المعلومات من البيئة المحيطة، بل وقبل ولادته عندما كان
جنينا في رحم أمّه. ولقد صاغ مؤسّس علم النفس التحليلي العالم "سيجمويد
فرويد" ما يعرف بمصطلح "فقدان ذاكرة الرضيع"، ذلك المفهوم الذي
وضّحه المتخصّص في طب النفس التربوي العالم "توماس فيرني" بإعادة صياغته،
حيث أكّد عدم فقدان ووجود تلك الذاكرة وتأثيرها على الصحّة النفسيّة والجسديّة على
الطفل، ليس من بعد ولادته وحسب وإنّما قبل ولادته، حيث يكون لديه سلوك تلقائي من
تلك الذاكرة عندما يكبر رغم ضعف القدرة على استرجاع مخزون أو فكرة ذلك السلوك من
برمجة عقله. بل أنّ الحقائق العلميّة قد ذهبت بأعمق من ذلك، حيث تأثير ما يدور عند
وبين الزوجين على صحة وتوازن طفليهما أشهرا قبل الإخصاب وتكوين الجنين المتوقّع! كما
أنّ الزوجين هما شريكين في الهندسة الجينية لطفيليهما! ولهذا العمق العلمي مقام
آخر قد نخصّ له مقالا في عدد مقبل.
ومن الوعي الجسدي المرتبط بالحواس الخمس المشتملة
على البصر والشم والتذوّق والسمع واللمس، يحمّل الطفل المعلومات من المحيط من
السنتين وإلى الستة سنين من عمره بشكل فعّال، حيث تقل ساعات نومه و رغبته في
الطعام، ليبدأ بالانطلاق والتنقيب لاكتشاف العالم من حوله، وهنا يكون النقش الفعلي
على الحجر! ذلك لأن المخزون العقلي والذي يحتوي على أفكار وذكريات مرتبطة بالمشاعر
التي يشاهدها ويطبّقها الطفل المؤلمة منها والمفرحة، تختزن في مناطق معيّنة في
الدماغ كالأميجدالا او اللوزة الدماغية، وبما أن تردد موجات الدماغ أي عدد الموجات
في الثانية يكون منخفضا في السنتين الى ستة سنين من عمر الإنسان (عدد 3-8 موجة في
الثانية، مقارنة بعدد 12-40 موجة في الثانية في حالة الصحوة فيما فوق 12 سنة)، فإنّ
تحميل المعلومات في وعاء العقل من السهولة وعدم المقاومة أشبه ما يكون بالتنويم
الإيحائي الذي يستخدمه المتخصّصين في العلاج النفسي! هذا وإن دل على شيء فإنما يدل
على أهميّة وخطورة ذلك السن الحرج في النقش على الحجر!
ولنعيد صياغة تلك المقولة ليكون التعليم وليس
التعلّم كالنقش على الحجر، لأنّ ذلك النقش يكون بتلقين من الخارج من قبل أولياء
الأمور والمربّين، أي المبرمجين، فيكون تعليما، وليس إلهاما من الداخل الذي يجعل
الطفل منجذبا لكسب المعرفة والتعلّم فيما يهوى ويشكّل له قيمة عليا ذاتيّة، والتي
هي قيمة ضمنيّة مكمنها قلبه، حيث لا تتضح و تظهر في سلوكياته حتى يبلغ سن الثانية
عشرة من عمره بعد رحلة التنقيب لاكتشافها و ليس اختيارها! من هنا ندرك ما لخطورة
النقش على الحجر، وما لأثره في معظم سلوكياتنا وعوائق عقولنا التي تقف حائلا دون
تحقيق ما تصبو إليه أنفسنا من أهداف ملهمة وسامية تاركة للأثر الصالح. فجوهر
مسؤولية التنشئة من قبل الوالدين تبدأ أولا بمسؤولياتهما نحو أنفسهما، ذلك باكتشاف
كل منهما قيمته العليا ومساندة كل منهما للآخر في تلك القيمة، كما وأنّ التوازن
النفسي بمعادلة أفكار العقل التي تولّد المشاعر السلبية كالخوف والغضب واللوم
لتعديل السلوكيّات المبرمجة من المحيط في عهد سابق تلعب دورا أساسا في تحقيق الهدف
الذاتي، ذلك الهدف الذي وضوحه بغية أساسية لتجسيده على أرض الواقع خلال سنين
محدّدة. وهذا هو سر التنشئة على الحب الذي يتجلى بنقش مفاتيح الاتزان الذاتي في
حجر عقل الطفل.
نحتاج إلى تشجيع الأبناء ومكافئتهم مقابل عملهم
المبدع بعد إنجازه، وإتاحة فرص اللعب لاكتشاف مصدر إلهامهم بنشاط مرتبط بقيمهم
العليا، واستيعاب بل واحتضان تلك القيم كمسارات مهنينة موجّهة و مدركة، لأنّها معنية
بحياتهم الملهمة المتّزنة الثريّة و المنعكسة على أجسادهم بالصحة المستدامة. إنه
التعليم في الصغر الذي هو كالنقش على الحجر، ونحن بدورنا كأولياء أمور قائمين
بمسؤوليّة إنشاء الأجيال المنعّمة بالسلام و الصحّة، علينا أن نسمح لعقولنا بعد فتح
قلوبنا بإعادة النقش على حجر تلك العقول التي لا يمكن أن يعاد صياغة نقشها إلاّ من
بعد اكتشاف ما أتينا إلى الحياة لتأديته من رسالة ودور تارك للأثر، هنا تكمن
الرؤية الجديدة والحقيقية لمقولة "التعلّم في الصغر كالنقش على الحجر" بعلم
مدرك، دعوة إلى التأمّل.